آراء وأقلام نُشر

لماذا نريد دولة مدنية ورئيساً مدنياً؟

 

 

واذا اختزلت مفهوم الدولة المدنية بدولة النظام والقانون أو على الأصح القانون والنظام والمواطنة المتساوية، ودون التطرق لتفاصيل تلك الصفة الأولى وذلك الحق التالي، فإن الدولة المدنية لا يمكن أن تتحقق أو تستقيم أمورها دون أن يكون رأسها نفسه مدنياً، وهنا بيت القصيد.

وحتى استبق الشكوك وسوء الظنون وهي للأسف الأصل والغالبة في تفكيرنا وتعاملنا بل وطبيعة علاقاتنا في اليمن، أقول أن هناك قادة عسكريين يلزمون الآخرين احترامهم والإعجاب بهم، ولن أذهب بعيداً للبحث عن نموذج بعيد بل أكتفي بالتذكير بالشخصية العظيمة والنادرة لسوار الذهب الذي قاد انقلاباً عسكرياً في السودان لضرورات استدعتها ظروف ذلك البلد آنذاك ولفترة قصيرة تنازل بعدها عن السلطة وسلمها لصناديق الانتخابات. غير أن هذا المثال يعتبر استثناءً ولا يقاس عليه وسط أغلبية ساحقة في الماضي والحاضر تستغل مناصبها وتسيء لبلادها وللآخرين، أمثال عيدي أمين في أوغندا وسامويل دو وخلفه تايلر في ليبيريا وبوكاسا الذي بلغ مداه إلى تنصيب نفسه إمبراطوراً على زائير وغيرهم كثير ممن مثلوا نقاطاً سوداء وحالات كارثية في حق بلدانهم وشعوبها. 

وفي المقابل، هناك قادة ورؤساء ذوو خلفيات مدنية في القديم أو في العصر الحديث أساءوا كل الإساءة لبلدانهم وللآخرين، بل وحمّلوا دولهم وشعوبهم تبعات باهظة لسياسات وتوجهات لم تستطع أن تجمحها أفضل الدساتير والقوانين. وأقرب مثال على ذلك ما نتج عن سياسات هوجاء لجورج بوش الابن من دمار وقتل في كل من أفغانستان والعراق فضلاً عن الخسائر المالية التي تحملتها الموازنة الأميركية والتي تجاوزت التريليون دولار وضحايا الجيش الأميركي وتأجيج التوتر بين الشعوب العربية والإسلامية من ناحية والولايات المتحدة الأمريكية من ناحية أخرى. فالعبرة والتقييم يستند على الحكم العام من خلال أداء الحكام العسكر مقارنة بالمدنيين، وهو ما استخلصه الغرب من تجارب الديكتاتوريات العسكرية ولينهي بعد الحرب العالمية الثانية هذه المرحلة ويجعل من الجنرال فرانكو في إسبانيا ختامها حين أعد نفسه لعودة خوان كارلوس ملكاً على إسبانيا. 

إن الإرث الطويل للأنظمة العسكرية في المنطقة العربية بدأ بقيام ثورات وانقلابات عسكرية منذ ثلاثينيات القرن الماضي نتيجة عدم تمكن الملكيات آنذاك من التطور والتكيف مع المستجدات، ومن ثم تأثير الحرب الباردة لاحقاً ودورها في تقسيم المنطقة بين المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والشرقي بزعامة الاتحاد السوفياتي الذي عزز نفوذه على الجمهوريات الفتية مقابل إحكام الغرب قبضته على ما تبقى من ملكيات والتي إما ارتبطت بحماية أجنبية أو استفادت مما حدث لغيرها كالسعودية أو الاثنين معاً. كما ساعد على بقاء النظام الملكي في تلك الدول سوء أداء البديل الجمهوري – عموماً - في المراحل اللاحقة لقيام الثورات، إذ لم تظهر تلك الأنظمة من الجمهورية إلا التغني بمبادئها. أما دول الخليج العربية الأخرى، فإن ظرفها اختلف كلية عن الملكيات السابقة باعتبارها مجتمعات قبلية وعشائرية حكمتها مشيخات أسرية لفترة طويلة تحت حماية استعمارية ثم تحولت بدفع تلك القوى الاستعمارية إلى دويلات وأنظمة وراثية تزامنت مع تراجع المد الثوري في سبعينيات القرن الماضي. 

وأعود إلى أهمية الرئيس المدني والذي يعتبر شرطاً لازماً للدولة المدنية ولنجاحها. وهنا أشير إلى إمكانية تقمص وتغليف شخصيات غير مدنية عسكرية كانت أم قبلية برداء مدني، وهو ما شهدناه في حالة العديد من رؤساء الدول العربية الذين أتوا من خلفيات عسكرية ثم هجروا بزاتهم العسكرية واتجهوا للظهور ببدلة مدنية غالية الثمن وأحياناً من أشهر بيوت الأزياء الغربية، وكأن ذلك كفيل بأن يجعل منهم حكاماً مدنيين بكل ما تحمله الكلمة من معنى ومضامين. وفي المقابل، هناك حالات مشيخية مشابهة مثل كردستان العراق التي تحاول تلبس مظاهر الجمهورية والديمقراطية وهي بعيدة كل البعد عنهما، بل ربما الأفضل لها أن تعلن دولتها وراثية دون تزييف أو تدليس بدلاً من الإدعاء الكاذب بجمهوريات تتوارثها قبائل أو أسر بعينها، وهي الخطيئة الكبرى للجمهوريات العربية الثورية التي اتجهت إلى التوريث اقتداءً بسُنة صاحب دمشق ومدمرها الأسدين الأب والإبن ثم القذافي مدمر الثورة الليبية فمبارك الذي أنزل مصر إلى الحضيض وصالح اليمن الذي هدم كل ما كان يمكن أن يعتبر إنجازاً بما في ذلك وحدة الوطن، وانتهاءً بزين العابدين بن علي الذي رأى في زوجته خلفاً مناسباً له وبوتفليقة الذي تطلع لأن يتبوأ أخاه كرسيه بعد شيخوخة طويلة. فهل هناك دجل واستخفاف بعقول الناس أكثر من هذا؟ لا حول ولا قوة إلاّ بالله، كيف تسير الشعوب وراءهم لتنال حقوقها ثم تركض خلفهم لتتنازل عن حقوقها وتفقد حريتها. "أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون". 

والمسألة في حقيقة الأمر ترتبط بفارق كبير بين معطيات المدرستين المدنية والعسكرية وضروراتهما وكذلك الإعداد التربوي والذهني وترتباتها من قوانين وأنظمة، وحتى في السلوكيات الخاصة خارج إطار الممارسات الوظيفية رغم أن هناك مشترك إنساني يجمع بينهما يتمثل في فكر وأحاسيس وأخلاق. ومع ذلك، فإن قبول أن يكون الأقل ذكاءً والفاشلين في دراستهم وحياتهم الخاصة والمعقدين نفسياً ومن يعاني مشاكل اجتماعية هم الذين يتجهون للالتحاق بالقوات المسلحة والأمن بما في ذلك كلياتها المختلفة، يعتبر أساساً خاطئاً وإلى أبعد الحدود. فهؤلاء هم الذين يتولون حماية البلاد ويحافظون على أمنه واستقراره، وهم الذين بيدهم مقدراته وسلطة تمكنهم من التحكم بالبلاد والعباد، والتي يمكن استخدامها بشكل سليم أو إساءة استخدامها في تحقيق مصالح خاصة وإيقاع الظلم على الآخرين. كما أن السلوكيات والأنظمة العسكرية التي تبالغ في الصرامة وكذلك توجيه الكلمات النابية والصفات غير اللائقة، بالإضافة إلى الأوامر التي تهين الأقل رتبة وخاصة الجنود والتي أضحت جميعها عرفاً عسكرياً متوارثاً فهي تُفقد العسكري كرامته واحترامه لنفسه وللآخرين. أما شرط الطاعة العمياء، فإنه يتنافى مع كل منطق وعقل بل والعقيدة، لأنه يمثل إلغاءً للعقل الذي كرم الله به الإنسان وفضله على سائر مخلوقاته. فكيف لنا أن نعطله أو نضعه جانباً لننصاع لأوامر وتعليمات ونتبعها بشكل أعمى؟ 

ولا تعني هذه المقارنة بأي حال أفضلية أو جدارة هذا من ذاك، فالحكم يتوقف على نتائج العمل، وإنما الغرض هو بيان طبيعة الأعمال والمهام وكذلك عملية الإعداد والتأهيل التي تختلف بشكل جذري في العمل العسكري مقارنة بالوظيفة المدنية، رغم أن البعض قد يعتبر المهارات الإدارية مشتركاً بينهما. لذلك، تبرز العديد من الفوارق ابتداءً بالسلوك الفردي والاجتماعي وانتهاءً بطريقة الإدارة واتخاذ القرار. ومن ذلك – وعلى سبيل الإنصاف – تعتبر الشجاعة والإقدام من الصفات المهمة في رئاسة الدولة، لكنها في القيادة العسكرية أهم وأعلى درجة، والعكس في ما يتعلق بالقدرة على امتصاص غضب الآخرين والمرونة في التعامل مع الخلافات والاختلافات فهي عند السياسي أكثر طلباً، وهكذا.

ولا يفوتني أيضاً الإشارة إلى قضية هامة ما زالت ملتبسة لدى الأغلبية وذات علاقة بحكم رجال الدين. فبعيداً عن الحقب التاريخية السابقة حين استند أغلب حكامها إلى الحق الالهي سواء في الشرق أو الغرب، ورغم أن هناك نقاشاً وجدلا حول سلامة مسمى "رجال الدين" في الإسلام والقول بأفضلية مصطلح "علماء الدين" شأنهم شأن علماء الفيزياء والطب والاقتصاد ....الخ، إلا أن هناك توجساً واضحاً من استخدام الدين في السياسة أي أسلمة السياسة وكذلك تسيس الدين، وهي من المسائل الخلافية التي يصعب التوافق التام حولها لا حالياً ولا مستقبلاً. ولا شك أن تبوأ العالم أي عالم لسدة الحكم أفضل من استيلاء الجاهل عليه، إلا أن ذلك العالم وبغض النظر عن مجال اجتهاده دينياً كان أم غيره لا يجوز أن يضفي طابع تخصصه وعلمه على كافة مجريات الحكم والحياة، فهناك أمور تستدعي تغليب السياسة أو القانون وأخرى تحتاج إلى الاقتصاد وثالثة قد تتطلب رؤية العلوم التطبيقية، وهكذا. وبالتالي، فإن القلق من عالم الدين في سدة الحكم ينبع من المبالغة في تلبسه للدين في كل كبيرة وصغيرة دون التبصر في ظروف الحياة وتطورها، وهو ما أكدت عليه شريعة نبينا محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله حين بيّن في أكثر من حال أن المسلمين أعلم بأمور دنياهم. وما زاد الطين بلة، أن علماء الدين في عصرنا هذا قد أصبحوا يميلون في الغالب إلى التعالي والبعد عن التواضع للناس ويتجهوا للتطرف وسرعة إصدار الأحكام والفتاوى، فضلاً عن دورهم في تفريق الأمة بدلاً من لم شملها، وهو ما نشهده في أيامنا هذه. 

خلاصة الأمر، أن العمل على تصحيح مواقفنا وبناء الوعي لا يكفي، وخاصة في هذه المرحلة الفارقة من عمر الأمة ونحن أمام فرصة ذهبية يتيحها الحوار الوطني، إذ الأهم من ذلك كله هو التوافق على المبادئ والأسس الحاكمة وتدوينها في عقد اجتماعي جديد كدستور يختط مسار المستقبل ويبني دولة جديدة تحفظ كرامة الإنسان وتضمن له المواطنة المتساوية، وهما جوهرتا الحياة. وينبغي أن لا نعتمد على حسن النوايا، بل يجب أن نتأكد من ضمانات تطبيق تلك المبادئ والأسس وعدم الخروج عنها أو الالتفاف عليها، وهو ما نعلم أن القوى التقليدية الثلاث في اليمن تسعى إليه وتخطط له وتحديداً إزاء الانتخابات الرئاسية القادمة لتفرز ديمقراطية في الظاهر وانتهازية من داخلها، فماذا أنتم فاعلون يا قادة الفكر والرأي؟ وما هو دور مؤتمر الحوار الوطني؟ وهل يستطيع مواجهة تلك القوى والوصول بأمان إلى تحقيق الأهداف والتطلعات؟ هذا ما ستظهره لنا الأشهر القليلة القادمة. 

رئيس المرصد الاقتصادي للدراسات والاستشارات

yyalmutawakel@yahoo.com


 

مواضيع ذات صلة :