آراء وأقلام نُشر

العدالة الاجتماعية في النموذج التنموي

 

 

كنت قد ذكرت في مقالي السابق أن للنموذج التنموي الجديد ثلاثة مضامين أساسية أو أن هذا النموذج يمثل مثلثا بأضلاع ثلاثة تمثل العدالة الاجتماعية قاعدة المثلث وهي جوهر المضمون الاجتماعي للنموذج.

بينما يشكل المضمون الاقتصادي والمضمون المكاني ضلعا هذا المثلث أخصص هذا المقال للحديث عن مقاصد العدالة الاجتماعية باعتبارها حجر الزاوية الحاكمة لنتائج وثمار النموذج التنموي.

إن العدالة الاجتماعية هي مبدأ قيمي وأخلاقي أساسي واسع التفسير وله تطبيقاته العملية الشاملة والمتنوعة.

وهي في التصور الإسلامي تعني تحقيق كرامة الإنسان الذي كرمه الله بها (( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر...الآية)) وبمقاصدها المادية والمعنوية والروحية، لذلك فهي تمثل مبدأ أصيلاً لاستقامة الحياة وعمارة الأرض وتقليل الفوارق بين الناس وتحقيق الأمن والاستقرار الاجتماعي.

فتحقيق الكرامة الإنسانية يكفل تحقيق الحياة الحرة الكريمة وليست منحة من أحد ولكنها حق مكفول ومن ثم فإن التنمية هي كرامة الإنسان ، وكرامته هي غاية التنمية ، مما يعني أنه لا بد من كفالة فرص حقيقية للمواطن . 

لقد ظلت العدالة الاجتماعية الشغل الشاغل للمفكرين والفلاسفة وهما عند السياسيين ومعياراً للاقتصاديين في قياس الكفاءة الاقتصادية والاجتماعية لأي نظام اقتصادي.

فالنظام الاقتصادي عندما يكون قادراً على تمليك أفراد المجتمع المنافع وتحقيق مستوى مرتفع للعدالة والإنصاف في توزيع ثمار التنمية، وعندما يكون قادراً على تقليل الفوارق بين الأفراد وإزالة التوتر والصراعات الاجتماعية والسياسية، فإن هذا النظام يكون قد نجح نسبياً في تحقيق العدالة الاجتماعية. 

فالعدالة الاجتماعية بمضمونها الاجتماعي عميقة الصلة ليس فقط بمستوى الإنصاف في توزيع الثروة والدخل والفرص الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وإنما أيضاً بتقليل الفوارق بين الافراد ، وترتبط بمفهوم العدالة الاجتماعية قضية ذات أهمية جوهرية للاستقرار الاجتماعي، هي قضية التماسك الاجتماعي التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بإنجاز الاستقرار الاجتماعي والتكافل والتوازن الاجتماعي.

فلا تنمية مستدامة مالم تتم المحافظة على التماسك الاجتماعي وبه تتحقق الثقة العامة بين النظام الاقتصادي والجماعة السياسية والاقتصادية ، فالتماسك الاجتماعي يمثل هدفاً جوهرياً لتفادي الآثار الجانبية أو السلبية للاقتصاد الحر المنفلت الذي يولد الفردية الأنانية ويضعف المسئوليات المشتركة ويوسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء.

ولذلك، فإن أي نظام اقتصادي لن يكون كفؤاً اجتماعياً ما لم يكن قادراً على ترسيخ التماسك الاجتماعي بين الأفراد، وزيادة درجته ومستواه، وهذا يتطلب الاستثمار في منظومة التماسك الاجتماعي التي من شأنها أن تعظم الأهداف والمصالح والمنافع المشتركة وقيم العمل الجماعي وتنجز التضامن والتكافل الاجتماعي.

واليوم أضحى للتماسك الاجتماعي مقاصد رئيسية ثلاثة تُعتبر مقاييس عالمية لقياس مستوى انجاز النظام الاقتصادي لأبعاد العدالة الاجتماعية.

فالإدماج الاجتماعي والحراك الاجتماعي ورأس المال الاجتماعي تمثل مقاصد أساسية للتماسك الاجتماعي. يتضمن بُعد الادماج الاجتماعي تقييم المستوى الذي يتيحه النظام الاقتصادي من فرص المشاركة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للأفراد .

ومن مؤشرات قياس هذا البُعد تقييم حجم الموارد الجديدة التي يتيحها النظام لمجالات التنمية الاجتماعية الأساسية كالانفاق على الرعاية الصحية والتعليم والحماية الاجتماعية (مؤشرات التنمية البشرية).

كذلك فحص وتقييم الانفاق على التنمية الريفية حتى يكون الريف كالحضر ، إضافة إلى تقييم مستوى الانفاق على مكافحة العادات الاجتماعية السلبية كالثار والتهميش الاجتماعي لبعض الفئات وتقييم مستوى الانفاق على حل الصراعات والصلح بين الجماعات والأفراد.

أما بُعد الحراك الاجتماعي فإنه يعني مدى الالتزام بمبدأ تكافؤ الفرص المحرز ونتائجه على مستوى رضى الأفراد وسعادتهم ، وهذا يتطلب قياس مدى نجاعة السياسات الاجتماعية والاقتصادية التي تؤسس لشراكة منظمة وفاعلة للأفراد، وبالاضافة إلى ذلك تقييم مستوى فاعلية المؤسسات الديمقراطية ومدى تمسكها بالدفاع عن قواعد الشراكة وتكافؤ الفرص بين أفراد المجتمع.

ومن جانب آخر فإن تراكم رأس المال الاجتماعي يتضمن تقييم مستوى الثقة بين أفراد المجتمع والمؤسسات ونتائج ذلك على شعور الأفراد بالانتماء إلى المجتمع.

وهذا يتطلب تقييم مستوى الشراكة في تمويل المشروعات ومنظمات المجتمع المدني في القيام بعمل جماعي ومن ذلك الشراكة في تمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة والشراكة بين هذه المؤسسات في برامج الحماية الاجتماعية والضمان الاجتماعي.

ومن جهة أخرى فإن مقاصد وأبعاد التماسك الاجتماعي لها علاقة بفاعلية العدالة الاجتماعية وعلاقتها بنتائج وثمار النمو الاقتصادي .

فالنمو العقيم الذي يؤدي إلى زيادة الدخل القومي دون أن يؤدي إلى توليد فرص عمل للمواطنين لا يحقق العدالة لأنه يجعل ملايين الأفراد يشتغلون لساعات طويلة في أعمال زهيدة الأجر ومنخفضة الدخل ، كما أن النمو بلا مستقبل الذي لا يأبه بحقوق الأجيال القادمة ويتحيز فقط للحاضر والجيل الحالي هو نمو مخل بمقتضيات العدالة الاجتماعية.

ولا يقل النمو المكبوت شأناً في الحاق الضرر بالعدالة الاجتماعية ، فالنمو المكبوت أو النمو الاقتصادي المادي الذي لا يقترن بتنمية سياسية حقيقية، نمو منقوص ومخل بجوهر العدالة الاجتماعية، لأن أي نمو بداية تنمية سياسية حقيقية يعني حرمان الناس من المشاركة الحقيقية في صناعة خياراتهم الاقتصادية والاجتماعية.

وهذا الحرمان هو الذي يشكل حاضنة كبيرة لسوء توزيع الدخل والثروة والفرص .

وبصورة عامة ، فإن التنمية التي تديم التفاوتات بين الناس ليست تنمية مستديمة ولا هي تنمية تستحق الاستدامة وفقاً لأدبيات الأمم المتحدة، ومن ثم فإنها لن تكون مقبولة لأنها ببساطة تتناقض كلية مع مقاصد العدالة الاجتماعية.

لذلك ، فإن تحقيق المضمون الاجتماعي والانساني للنموذج التنموي الجديد والذي تشكل العدالة الاجتماعية بوابته الرئيسية مسئولية مشتركة بين الدولة والمجتمع مع دور ريادي للدولة في هذا المجال وهو دور تفاعلي وتشاركي مع المجتمع ممثلاً بالقطاع الخاص والقطاع الأهلي والتعاوني وفي إطار منظومة القيم الإسلامية التي تفتح آفاقا رحبة لتحقيق الأمن الاجتماعي للأفراد بمعناه الواسع والقائم على التطبيق العميق والشامل لقيمة العدالة الاجتماعية، التي أُفتقدت في العقود الماضية. فتحقيق التماسك الاجتماعي مرتبط بالتطبيق الجاد والصحيح لمفهوم العدالة الاجتماعية.

وبصورة محددة ، فإن المضمون الاجتماعي يؤكد على عدد من الفرص التي من شأنها أن تحقق مستوى المعيشة اللائق بالمواطن الذي يكفل كرامة المواطن كإنسان وهي:

الفرص الاجتماعية : وتتضمن أبعادا مختلفة منها الفرص الاقتصادية بتمكين المواطن من العمل في المجال الذي يرغب به ويوظف موارده في مجالات الإنتاج أو الاستهلاك أو التبادل وفقاً لمبدأ تكافؤ الفرص دون تمييز.

إن توفير الفرص الاقتصادية يحقق للمواطن أمناً اقتصادياً يمكنه من الحصول على دخل وموارد مناسبة تليق بكرامته كإنسان وتحقق له حد الكفاية الذي يقيه من شرك الحرمان الاقتصادي -الجوع- وسوء التغذية واعتلال الصحة والوفاة المبكرة.

> إن حق المواطن في اكتساب المعرفة والعلم يمثل بعداً آخر لتحقيق الفرص الاجتماعية ، وفرص العمل فالتعليم في كل مراحله مجاني وهو إلزامي في المرحلة الأساسية ومن حق المواطن الحصول على الرعاية الصحية الكاملة والمياه النقية، وبصورة عامة فإن من حق المواطن التمتع بتنمية بشرية مرتفعة ، وإذا كان هذا الحق ممنوحا للأجيال الحالية فهو كذلك بالنسبة للأجيال القادمة.

فالمضمون الاجتماعي يؤكد على مبدأ التلازم والترابط بين التنمية البشرية والتنمية المستدامة، فإذا كانت التنمية البشرية وفقاً لتعريف البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة تعني إفساح المجال أمام الإنسان ليعيش حياة مديدة يتمتع فيها بالصحة والعافية ويحصل على التعليم ويحقق ذاته، فإن التنمية المستدامة من جهة أخرى تعني الحرص على إفساح المجال ذاته أمام أجيال الغد، فالتنمية البشرية لا تكون تنمية بشرية مالم تكن مستدامة.

والتنمية المستدامة من جهة أخرى وفقاً لتعريف اللجنة الدولية حول البيئة والتنمية (1987) تعني تلبية احتياجات الأجيال الحالية دون اعاقة مقدرة الأجيال المستقبلية في مقابلة احتياجاتها أيضاً.

إن تلازم مفهومي التنمية البشرية والمستدامة تعني امكانية استخدام مؤشرات التنمية البشرية لقياس الانجاز التنموي المستدام.

ومن الواضح أن تلازم المفهومين إنما يؤكد على شروط النمو الاقتصادي المطلوب والمرغوب - أي على طبيعة النمو الاقتصادي المرغوب ونوعيته وهو أن يكون نمواً اقتصادياً مضطرداً مستداماً يحقق الانصاف والعدل لكل شرائح المجتمع ويعيد الاعتبار للطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة والمهمشين. أن يكون نمواً ايجابياً ومنتجاً يولد فرص العمل ويجابه مشكلتي البطالة والفقر ويؤدي إلى تنمية عادلة في الريف والحضر.

> وتعني الفرص الاجتماعية تحقيق الأمن الاجتماعي للمواطن.

إن الأمن الاجتماعي مسألة مرتبطة بمبدأ التكافل الاجتماعي ومبدأ التوازن الاجتماعي وتحقيق ذلك يتطلب ما يلي:

> التأكيد على بناء شبكة حماية اجتماعية فاعلة بالشراكة بين الدولة والقطاع الخاص والقطاع الأهلي ، وتؤدي فيها مؤسسة الزكاة والأوقاف دورهما الفاعل بعد إعادة هيكلتهما وتطوير دورهما الاجتماعي والاقتصادي كمؤسسات مستقلة تنظمها الدولة، إن الغاية من الأمن الاجتماعي هي التخلص من ربقة الفقر والبطالة والحرمان الاقتصادي والاجتماعي وتحقيق الاستقرار الاجتماعي ، كما أن من حق المواطن ذي الاعاقة أو العاجز عجزاً كلياً أو جزئياً عن العمل أو في حالة الشيخوخة أو البطالة أن يحصل على ضمان اجتماعي يكفل له حد الكفاية، والمستوى المعيشي اللائق.

ويتطلب الأمر، إعادة صياغة لمفهوم ومضمون شبكة الحماية الاجتماعية بما يؤدي إلى مزيد من التناسق والتكامل وتحقيق أقصى فاعلية لها، لذلك يستلزم الأمر تطوير دور وفاعلية شبكات الحماية الاجتماعية الآنية.

- صناديق التنمية الاجتماعية.

- برامج الدعم النقدي وإعانة العاطلين من خلال صناديق الرعاية الاجتماعية.

- برامج الأشغال العامة.

- برامج الدعم السلعي (السلة الغذائية مثلاً).

- برامج المشروعات الصغيرة والأصغر وسبل الحصول على الاقراض الميسر وبأدوات التمويل الاسلامي وتشجيع القروض الحسنة، إضافة إلى تشجيع مؤسسات التمويل على استخدام اسلوب التمويل المتنقل في الريف.

- برامج التأمين الصحي التي تكون مجانية لغير القادرين على الدفع.

- الضرائب التصاعدية كأداة لتحقيق التوازن الاجتماعي.

- برامج الاسكان الشعبية بالشراكة الحكومية والقطاع الخاص والأهلي والتعاوني .

- المؤسسات المستقلة للزكاة والأوقاف ودورها في تحقيق التكافل الاجتماعي.

- سياسة عادلة للأجور تقوم على رفع الحد الأدنى والأعلى للأجور وجعله متغيراً مع مستوى الأسعار وربط الأجر بالانتاجية ومبدأ الحاجة التي من شأنها أن تحقق حد الكفاية .

> ويرتبط تحقيق الأمن الاجتماعي بتحقيق الأمن المائي، وفي اليمن فإن حصة المواطن من المياه ما زالت هي الأقل مقارنة بالمعايير العالمية. وهو ما يستلزم إدراج برنامج تطوير الموارد المائية ضمن اطار المشروعات والبرامج الاستراتيجية في النموذج التنموي.

> كما يرتبط بالأمن الاجتماعي مسألة تحقيق الأمن الغذائي للفرد والمجتمع الذي يستهدف في المقام الأول القضاء على الجوع وسوء التغذية واعتلال الصحة .

وللحديث بقية.

 

استاذ الاقتصاد بجامعة صنعاء - عضو مؤتمر الحوار الوطني الشامل - رئيس المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية


 

مواضيع ذات صلة :