آراء وأقلام نُشر

محنة الاقتصاد والشعب اليمني اليوم

 
يمر الاقتصاد اليمني هذه الأيام بمشكلة مالية واقتصادية مؤسفة أدت إلى استنزاف خزينة الدولة وتجفيف منابعها المالية طبقا لمصادر رسمية؛ هذا الوضع المالي الصعب دفع الحكومة للاستنجاد بالبنك الدولي لإنقاذها بقرض مالي إسعافي يعادل مبلغ 500مليون دولار.. جاء رد البنك مؤخرا بفرض قائمة من الشروط المالية بعضها قاسية و ستطال بأعبائها المرهقة الفئات السكانية الفقيرة والمعدمة أي الغالبية العظمى من السكان حوالي (90%)؛ بمزيد من المعاناة والأضرار المعيشية الصعبة.. دون التعرض للأسباب الحقيقية التي أسهمت في تدهور الوضع المالي إلى هذه الدرجة الحرجة..كما نرى كان بالإمكان تلافي واحتواء هذا الوضع المالي المأزوم بإجراءات قانونية؛ إدارية وأمنية مناسبة وفعالة وتخطيط مالي محكم؛ ولكن للأسف لم يحصل ذلك؛ فيما يلي نسلط الضوء بقدر من التحليل والتقييم الموضوعي على أهم تلك الأسباب وشروط البنك الدولي المشار إليها أنفا....
أولا: أهم أسباب المشكلة المالية الحالية 
السبب الأول: ارتفاع النفقات المالية عن الإيرادات المالية للموازنة التقديرية للدولة من بداية السنة المالية الحالية 2013م وإحداث فجوة تمويلية كبيرة بين الإيرادات والنفقات المالية بمبلغ يفوق 600مليار ريال بنسبة تقارب 25%..من القيمة الإجمالية للموازنة العامة التقديرية..دون تحديد طرق ووسائل مواجهتها أو مصادر سد الفجوة التمويلية الكبيرة؛ غير المسبوقة في البلاد..
السبب الثاني: الانفلات الأمني وتصاعد أعمال التخريب والتفجير المتواصل لأنابيب النفط والغاز وأبراج الكهرباء وعدم مواجهة هذه الأعمال التخريبية الخطيرة من قبل الحكومة بإجراءات فعالة مناسبة أو توفير الحماية الأمنية الكاملة لها؛ للحد من المخاطر والأضرار المالية والاقتصادية المتفاقمة على المجتمع والدولة.. أدى ذلك إلى حرمان خزينتها مليارات الدولارات مقابل النفط والغاز المهدور واستنزاف مئات المليارات من الريالات لإصلاح أبراج ومحطة كهرباء مأرب الغازية ومراضاة المخربين أو مكافأتهم دون جدوى..كما أدى إلى مزيد من المصاعب والحرمان الاجتماعي و تدهور مستوى الحياة المعيشية للشعب دون توقف. 
السبب الثالث: نتائج الانفلات الأمني المعروفة ومضايقة وتهديد وإرهاب كثير من المستثمرين وهذا واضح لا يحتاج إلى شرح.. أدى هذا إلى تراجع وانكماش خارطة الاستثمار التجاري والاقتصادي وتقليص مجالاته كما ونوعا داخل البلاد كما تسبب بانخفاض مستوى التشغيل للموارد الاقتصادية والمالية المختلفة ومنها العمالة اليمنية وانخفاض مستوى الدخل المالي الخاص والعام وارتفاع نسبة البطالة والفقر والغلاء؛ بل وهروب رؤوس الأموال إلى خارج البلاد؛ بصورة متزايدة دون وضع حلول ومعالجات جادة من قبل الحكومة لاحتواء المشكلة الاقتصادية والمالية المتفاقمة.
السبب الرابع: سوء التسيير الاقتصادي والمالي وفقدان خزينة الدولة أرصدة مالية كبيرة نتيجة النفقات المالية الترفية والهدر المالي الكبير من جهة والتحايل وامتناع قطاع واسع من المكلفين عن سداد ما عليهم للدولة من ضرائب ومحاباة بعضهم ومجاملتهم وإعفائهم من الضرائب المستحقة للدولة وبحسب مصادر صحفية يفوق فاقد الضرائب المستحقة للدولة (بدون الهدر المالي والإنفاق الترفي الواسع) سنوياً 500مليار ريال.
السبب الخامس: تأخر الحكومة اليمنية في ترتيب ومعالجة أوضاع العمالة اليمنية في الجارة السعودية خلال المهلة الممنوحة لهم لتتلاءم أوضاعهم مع المتطلبات القانونية المستجدة هناك؛ ما أدى لطرد مجاميع كبيرة منهم وحرمانهم من أعمالهم ومصادر أرزاقهم فتحولوا من مصدر دخل لهم ولذويهم وللدولة ذاتها إلى عبءٍ اقتصادي جديد على الدولة وعلى أسرهم الفقيرة بالتحديد؛ وللوضع القائم للحكومة اليمنية فسينضمون إلى طوابير البطالة والفقر والحرمان مع ما يترتب من نتائج سلبية في الداخل اليمني المثقل بأعباء مالية واقتصادية مرهقة.
تلك أهم الأسباب للمشكلة المالية التي لم تكن فجائية أو مجهولة أمام الحكومة اليمنية ولكن لأسباب غير معروفة لم تعالجها كما يقتضي الأمر رغم وضوح أسبابها للحد من آثارها المالية السلبية على مالية الدولة واقتصادها الوطني .. كأن الحكومة بأجهزتها التنفيذية الضخمة لم تكن ملزمة أو معنية بفرض هيبة الدولة وسلطة النظام والقانون في ربوع البلاد كافة وتوفير الحماية الأمنية اللازمة لمنشآتها ومواردها المالية والاقتصادية وتحصيل حقوقها المالية السيادية لسد الفجوة التمويلية الحاصلة في الميزانية العمومية وتلبية احتياجاتها التمويلية الأخرى رغم أن ذلك يعتبر من واجباتها الأساسية كأي دولة أو حكومة أخرى في العالم المتقدم أو المتأخر.. بدلاً من ذلك فضلت هذه الحكومة الهرولة باتجاه البنك الدولي طلباً للإنقاذ بقرض مالي عاجل لمواجهة الاحتياجات التمويلية الجارية وليست الاستثمارية طبعا؛ حتى نهاية السنة المالية الحالية.
ثانياً: موقف وشروط البنك الدولي
طبقاً لمصادر صحفية فقد جاء رد نائبة مدير البنك الدولي مؤخرا على طلب الحكومة اليمنية للقرض المذكور قاسيا عند زيارتها لبلادنا بفعل الهدر المالي والتوسع في النفقات المالية الجارية مع التهديد أن المنح المالية لن تصرف لليمن حتى تنفذ الحكومة اليمنية مجموعة من الشروط للحد من تصاعد النفقات المالية الجارية بعد أن طفح الكيل كما يبدو لدى المنظمات الدولية ونفد صبرها من أداء ولا مبالاة الحكومة اليمنية؛ لذلك خاطبت المسئولة الدولية الحكومة اليمنية بالقول: وضعكم مخزي وخطير وغير مقبول....الخ؛؛ لكن ما يؤخذ على قائمة الشروط التي سلمتها المسئولة الدولية للحكومة اليمنية..هناك شرطان ذا تأثير سلبي ضار على حياة الشعب وبالذات الفئات السكانية الفقيرة والمعدمة (90%) من السكان تقريباً-الأول-خصخصة مؤسسات الدولة – فكما تؤكد كثير من التقارير وخبراء الاقتصاد والمالية العامة في الداخل والخارج أن خصخصة المؤسسات والمشاريع الإنتاجية والخدمية الناجحة المملوكة للدولة لم تحقق الهدف المأمول في كثير من دول العالم بل قادت إلى نتائج عكسية وأسهمت بمزيد من البطالة والفقر والغلاء في أوساط المجتمعات التي طبقت هذه الإجراءات المالية و الاقتصادية بدافع خفض النفقات الحكومية العامة؛ بإيعاز من البنك والصندوق الدوليين أو بدونهما..خصوصاً في المجتمعات الأقل نموا كبلادنا.. فإضافة إلى صرف آلاف العمال عن أعمالهم ورميهم بالشوارع وقطع أرزاقهم مع أسرهم ونادرا ما تكون الخصخصة مجدية اقتصاديا واجتماعيا على مستوى العالم الثالث..تغذي الخصخصة في هذه البيئة ظاهرة الفساد عن طريق التلاعب والرشوة وخفض تقييم المشاريع والمؤسسات العامة قيد التخصيص وبيعها بأثمان زهيدة لذوي الحظوة والنفوذ وحدهم حتى لو بيعت بنصف ثمنها الاقتصادي العادل أو أكثر قليلا فملكيتها العامة والحفاظ على تشغيل العمالة ورفع مستوى أدائها وإنتاجها بالمعيار الاقتصادي؛ تظل أفضل بكثير من الخصخصة بعثراتها المختلفة .إضافة إلى ذلك فرأس المال الجاهز والراغب في التشغيل والاستثمار الاقتصادي سواء كان محلياً أو أجنبياً ينبغي توفير المناخ المناسب لنشاطه وتوجيهه للاستثمار المجدي في تشغيل الموارد الاقتصادية العاطلة وفي المقدمة العمالة اليمنية لخلق وبناء مشاريع إنتاجية وخدمية جديدة تحدث إضافات هامة و ملموسة في الاقتصاد وتراكم رأس المال وزيادة الثروة الوطنية في البلاد.. وليس إلغاء والحلول محل المشاريع الاقتصادية والخدمية القائمة والناجحة بغض النظر عن التسمية دون إحداث إضافات فعلية جديدة في الاقتصاد الوطني بل ربما إنقاصه خاصة عنصر العمل ورأس المال.
الشرط الثاني الذي ورد بقائمة شروط البنك الدولي ونرى سلبياته وأضراره الاقتصادية والاجتماعية الواضحة على الحياة المعيشية للشعب اليمني ماثلة للعيان؛ يتمثل برفع ما تبقى من دعم المشتقات البترولية حتى تخضع لأسعارها الدولية خاصة في أوروبا وأمريكا مما يؤدي إلى ارتفاع قياسي في أسعار النقل والطاقة وانعكاسها المباشر على مختلف أسعار السلع والخدمات الاستهلاكية في مجتمع يتضور جوعاً بفعل قسوة البطالة والفقر والغلاء المتصاعد حالياً وندرة الأعمال والوظائف وتخلف وضآلة النشاط الاقتصادي وتدهور الحياة المعيشية للشعب اليمني وحرمانه إلى حد الندرة والفاقة وبوادر المجاعة الغذائية الماثلة؛ على النقيض من مستوى الحياة المعيشية المرتفعة في الدول المتقدمة التي تتبوأ قمة العالم في الرفاهية والدخل وتشغيل الموارد الاقتصادية والتطور الاقتصادي والاجتماعي وارتفاع مستوى الحياة المعيشية.
من الأهمية بمكان تذكير نائبة مدير البنك الدولي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا( الدكتورة أنجر أندرسون) وغيرها أن كلا مندوب البنك الدولي في اليمن والمدير التنفيذي لمجموعة البنك الدولي كانا قد أبديا نفس الرأي وعارضا رفع أسعار المشتقات النفطية وبالتالي عدم خصخصة مؤسسات الدولة في الوقت الراهن للآثار والنتائج المعيشية السلبية التي ستترتب على حياة الشعب اليمني وتعميق معاناته المعيشية وبالذات غالبيته العظمى من الفئات السكانية الفقيرة؛ مع تقديرنا لها نأمل من هذه المسئولة الدولية وغيرها ملاحظة ذلك وإلغاء تلكما الشرطان من قائمة شروط منح ذلك القرض المشؤوم أن نفذ رحمة بالمجتمع اليمني الصابر المثقل بالهم الأمني المختل المسكون بالخوف والحرمان والأعباء المعيشية والحياتية الصعبة؛ أمام هذا الوضع المعيشي المتردي للشعب اليمني في الوقت الراهن يكون من المناسب إلغاء فكرة القرض الدولي وقائمة شروطه من الأساس؛ واستبداله بتخصيص جزء من الأموال الممنوحة لليمن أو من أي مصدر آخر بشروط ميسرة لتغطية فجوة تمويل الميزانية العمومية الفعلية وليس الاسمية وحث الحكومة للإنفاق بعقلانية تحت شرط وقف النفقات المالية البذخية والهدر المالي ورفع مستوى كفاءة الأداء للحكومة اليمنية والقضاء على أسباب المشكلة المالية الفعلية كما بيناها سلفاً.. هذا تحت إشراف دولي غير مكلف إن لزم الأمر كي لا تتكرر هذه المشكلة المالية سنوياً في المستقبل رحمة بالشعب اليمني المغلوب على أمره..
يكفي الإشارة أن إجمالي الخسائر المالية لتخريب وتفجير أنابيب النفط وحدها لمدة عامين حتى شهر مارس 2013م قد بلغت 4.6مليار دولار طبقا لمصادر رسمية وستتجاوز بكثير خمسة مليار دولار حتى نهاية العام الحالي إن لم تصل إلى ستة مليار دولار لزيادة وارتفاع أعمال التخريب والتفجير والتدمير لهذه المنشآت الاقتصادية الحيوية خلال هذا العام..أما خسائر تفجير وتعطيل محطة كهرباء مأرب الغازية فقد فاقت مائة مليار ريال بما في ذلك مكافآت المخربين ومثلها أو أكثر خسائر الاقتصاد المنزلي والأنشطة الخدمية والتجارية والاستثمارية الأخرى، وما يزال هذا النشاط التخريبي في تصاعد وازدهار واتساع مستمر.. كل هذا على مسمع ومرأى الجميع في الداخل والخارج وعلى رأسهم المنظمات المالية الدولية المانحة والحكومة اليمنية ورئاسة الدولة ذاتها لا تقف المشكلة هنا فعندما نمعن ونقيم ونضيف الكلفة المالية والاقتصادية الناتجة عن باقي أسباب المشكلة المالية الموضحة سلفاً فقط يرتفع الإجمالي والفاقد الاقتصادي إلى مستويات قياسية باهضة قد يفوق عشرين مليار دولار حتى نهاية السنة المالية الحالية. هنا نتساءل: ما ضر الحكومة اليمنية لو حزمت أمرها وهمتها واستنفرت طاقاتها واستخدمت سلطاتها القانونية وإمكانياتها وأدواتها المادية الأمنية والعسكرية والقانونية لفرض سلطة النظام والقانون وتوفير الحماية الأمنية الكاملة لمنشآت النفط والغاز والكهرباء على أقل تقدير.. ألن تحقق وتوفر لخزينة الدولة ما يفوق ستة مليار دولار ومئات المليارات من الريالات المهدورة حتى نهاية هذا العام ولن تكن هناك ضائقة مالية شديدة تجبرها على استجداء المانحين والمنظمات الدولية المقرضة والخضوع لشروطهم الإذعانية مهما كانت وفي نفس الوقت تجنب الشعب اليمني الصابر مظاهر المسكنة والتبعية والإذلال والحرمان الاقتصادي الجائر، وترفع عن كاهله شبح الخوف والرعب وكابوس البطالة والفقر والغلاء القاتل لهمة وكرامة الإنسان وحقه المشروع في الحياة.

 

مواضيع ذات صلة :