آراء وأقلام نُشر

عندما يقول وزير النفط السعودي لا

 
 لا لتخفيض سقف إنتاج منظمة أوبك (30 مليون برميل/يومياً)، وهي تعني أيضاً لا لتحسين أسعار النفط عالمياً، وربما كانت من أغرب لاءات وزير البترول السعودي، الاستاذ المهندس علي النعيمي، التي تركت حَيرة كبيرة في عالم النفط والمال والسياسة، وتركت مباشرة نتائجَ سلبية وفورية في سوق الأسهم السعودية والخليجية ذاتها. ولم يفهم أحد حتى اللحظة لماذا يتعمد الوزير التهوين من تداعيات هبوط الأسعار على اقتصاديات الدول المنتجة في الأوبك وأولها بلاده.  
لاءات النعيمي الكبيرة لا تأتي من شخصه العارف المدرك لكل تبعاتها، ولكنها تأتي بالضرورة من سياسات عليا ترسمها المملكة السعودية في كل مرحلة، وبشكل ربما تجد له مبررات تتوافق مع مصالحها في الاقليم والعالم.
إن النفط، كسلعة استراتيجية قابلة للنضوب، يتميز بحضور متفرد في اقتصاديات العالم، وتدخل عوامل شتى في توجيه السياسات السعرية المتعلقة به، لكنها تخضع الى مدى كبير لميزان العرض والطلب كأي شيء متداول في الأسواق التجارية. وحين يكون العرض قد فاق الطلب فإن الميزان يحتّم إعادة ضبطه عن طريق خفض العرض. لكن هذه المرّه كما يبدو كانت هناك هواجس أخرى لم تفت أقل المراقبين خبرة.. ولا تحتاج أي جهد استثنائي للتفسير. فلا يمكن للسعودية والخليج، وهي الدول التي تعتمد دخولها على عوائد النفط بشكل رئيس، وتتأثر أسواقها المالية بسقوف الأسعار، لا يمكن لها أن تحمل الضرر لاقتصادياتها وموازناتها التي حققت ازدهاراً كبيراً طيلة فترة ارتفاع أسعار الخام في العالم، خاصة في الثماني سنوات الأخيرة.
ليست الفرضية التي سيقت في اجتماع الأوبك بأن الأمر يجب أن يُترك للسوق ذاته كي يصل الى حالة التوازن الطبيعي، أي أن تترك الأسعار تهبط الى قيعانها ثم تعود بحركة ذاتية الدفع لتحوم حول نطاق التوازن، ويصبح هو النطاق السعري البديهي والطبيعي بدون أدنى تدخل من أصحاب القرار. ليست تلك وليست بهذه البساطة، بل هناك أسباب أخرى مختلفة.   لا أظن أن هذا المنطق العجيب وحده أقنع دول الأوبك تماماً، ولا أعلم ما هي قوة الحجج الإضافية، إن وجدت، التي ساقها وزير البترول السعودي وبعض زملائه الخليجيين الى جانب تلك الفرضية. 
اذن لم يبق أي سبب يمكن مناقشته سوى أن المملكة السعودية اتخذت قراراً لا يتعلق بالشأن الاقتصادي والمالي، وأنها جازفت، إن صح التعبير، بأن قايضت بعض مصالحها المباشرة، ولو إلى حين، مقابل ما تراه مناسباً من زيادة الضغط السياسي على بعض البلدان، وعلى وجه التحديد روسيا وإيران، مع أن الأخيرتين تظاهرتا إلى حد ما بعدم الاكتراث علناً. 
المعروف أن المملكة لديها هامش متاح ومؤثر للعب دور سياسي عالمي، من خلال قدراتها الكبيرة في الإملاءات السعرية للنفط، كما أن لديها إمكانية كبح أي محاولة لمنافسة قدراتها كبلد يمتلك أكبر طاقة إنتاجية في العالم. وفي هذا السياق ربما أرادت المملكة أيضاً أن تؤكد أنه في مقدورها التأثير أو التحكم عن بعد بعملية إنتاج الزيت الصخري في أمريكا الشمالية، في أي وقت تراه ضروريا، لأن إنتاج النفط بالطرق غير التقليدية مكلف جداً، وتصل كلفة إنتاج البرميل الواحد إلى ما هو أكثر من 50 دولارا. ما يعني أن خسائر لا تطاق ممكن أن تصيب الشركات الامريكية والكندية حين تتدنى أسعار الخام وتقترب من حاجز الخمسين دولاراً. ويمكن أن يُحدث ذلك بالطبع تبعات كارثية على قطاع الطاقة وقطاعات المال والعمالة الكبيرة والصناعات الخاصة بتقنيات الاستخراج من المكامن الواسعة غير التقليدية، والمنتشرة في أحواض الولايات المتحدة وكندا.
إن الإبقاء على أسعار منخفضة في الوقت الحاضر بكل تأكيد لا يستهدف إزاحة الزيت الصخري من المنافسة أو غير ذلك، فالأولوية ربما تكمن في أن يتحمل الغرب والشرق هذه الدورة السعرية، التي قد تساعد على انتعاش استيراد النفط، وتحقق في الوقت ذاته غرضا رئيسيا ومهما، وهو إلحاق ضغط اقتصادي، لا يُحتمل، على روسيا بدرجة رئيسية، ليضاف هذا الى حزمة العقوبات الغربية، جراء سياستها في أوكرانيا وسوريا والأخيرة تهم المملكة ودول الخليج بشكل حيوي.
إن استخدام النفط لأغراض سياسية أمر ليس جديدا، رغم الإنكار المستمر، وهو طبيعي، فالاقتصاد والمصالح هما محركا السياسات الداخلية والخارجية وهما اللذان يحددان طبيعة العلاقات بين الدول وبين الكتل.
لكن السؤال الرئيس هو… هل يُستخدم النفط من أجل أهداف سياسية لا تتوافق مع المصالح الغربية؟    
لقد كان استخدام سلاح النفط لأول مرة عام 73 حدثاً منفصلاً عن نهج وسلوك المملكة، وربما ارتبط بشخصية الملك فيصل، رحمه الله، آنذاك، وفي ظروف بحاجة الى كثير من القراءة. لكن مفهوم جداً أن المملكة استخدمت النفط أيضاً في اتجاه آخر. وبالطبع كانت تلك المرّة في إطار الحرب الباردة، حين ساهمت في تصميم إبقاء الوفرة النفطية في الأسواق العالمية عام 86، وأدت الى انهيار الأسعار الى حدود متدنية، بعد الطفرة السعرية عام 73 وعام 79. وقد تسبب ذلك في إحداث أزمة مالية مزلزلة، في ما كان يسمى بالاتحاد السوفييتي، وكانت تلك الواقعة، بشهادة كثير من الخبراء، واحدة من أخطر المنزلقات التي قادت ذلك البلد الكبير الى هاوية مالية واقتصادية كبرى.
الآن اختلف العالم وذهبت الحرب الباردة بأدواتها القديمة، بعد سقوط المنظومة الاشتراكية، وحلت مكانها صراعات متجددة، كما برزت قوى إقليمية، في مرحلة ربما تُعد مقدمة لقيام نظام عالمي مختلف. لكن العرب مثلما كانوا مجرد وقود ووسائل لمصالح الآخرين وصراعاتهم، ولم يتموضعوا بعد ككتلة متكاملة في مكانتهم الطبيعية. ولم تشفع لهم قدراتهم البشرية ومواردهم الطبيعية ومواقعهم الجيـــــوسياسية المهمة بين قــــارات العالم، ولم يشفع لهم تاريخهم وأحلامهم في أن يصبحـــوا أمةً مستقلة لها قيمها وأهدافها وعلاقاتها العالمية المنطلقة من مصالحها الحيوية. 
سيبقى النفط وسيلة للتطور والرفاهية في الدول المنتجة، وأساساً لظهور مدن البترول الراقية، واقتصاد خدمات مزدهر، وودائع وصناديق سيادية كبرى وغيرها، لكنه سيبقى أيضاً مادة تجلب شهية العالم واهتمامه بالمنطقة من زاوية التأثير أو السيطرة عليها بأشكال مختلفة، لتبقى هي في كل مرحلة مجرد تابع ليس أكثر.

 

مواضيع ذات صلة :