اقتصاد يمني نُشر

لبنان: فائض السيولة بالليرة يضغط على الأوضاع النقدية

Imageحققت موجودات مصرف لبنان المركزي من العملات الاجنبية، اعلى مستوى قياسي وتاريخي لها وبلغت في نهاية يونيو الماضي نحو 23.5 مليار دولار، بزيادة مقدارها 10.9 مليارات دولار بالمقارنة مع يونيو من عام 2008، اي في خضم تداعيات الازمة المالية العالمية!
لقد نجمت هذه الزيادة من استمرار تدفق الودائع الى القطاع المصرفي اللبناني للاستفادة من ارتفاع سعر الفائدة على الليرة اللبنانية، مسجّلة نموا بنسبة 20 % على اساس سنوي، لتبلغ اكثر من 88 مليار دولار، اي 3.5 مرّات مجمل الناتج المحلي... الا ان هذا النمو في الودائع ترافق مع تحويلات واسعة من العملات الاجنبية الى الليرة، اذ تراجع معدّل الدولرة في غضون سنة من 71 % الى 61 %، مما ادّى الى ظهور سيولة كبيرة بالليرة اللبنانية غير قابلة للتوظيف في القنوات العادية، وهو ما حتّم تدّخلات حاسمة من قبل السلطة النقدية من اجل امتصاص السيولة ولو بكلفة عالية.

سندات طويلة الأجل

وقال وزير المال محمد شطح إن قرار مصرف لبنان اتُّخذ بالاتفاق مع الوزارة، وستُصدَر سندات خزينة طويلة الأمد (5 سنوات) بدلاً منها في مسعى «للتحكم بأسعار الفائدة على الودائع بالليرة اللبنانية وخفضها تدريجاً».
وقد اتُّفق مع وفد من جمعية المصارف (زاره أخيرا) على اصدار أول سندات خزينة من هذه الفئة في مزاد المناقصات الأسبوعي الذي يلي المزاد المقبل، وتوقع أن يبلغ سعر الفائدة عليه وفقاً للأسعار الموجودة حالياً في السوق المالية، إلا أنه سيكون أدنى من 9.25% (وهو آخر ما بلغه سعر فائدة شهادات الايداع)، وأعلى من الفائدة على سندات الخزينة المصدرة لمدة 3 سنوات البالغة 8.4%.
وأشار شطح إلى أن هناك اتفاقاً على ضرورة امتصاص السيولة الفائضة بالليرة في القطاع المصرفي، «إلا أنه يجب عدم اعتماد أدوات نقدية طويلة الأمد، كشهادات الإيداع، لأنها مُكلفة جداً مقارنة بأسعار الفوائد الحالية، فالفائدة المثقلة على سندات الخزينة لمدة 3 سنوات (36 شهراً) تبلغ 8.4%، وفي المقابل كان إصدار شهادات ايداع لمدة خمس سنوات بفائدة تصل إلى 9.25%،
 فيما أسعار الفائدة تستمر بالتراجع تراجعاً شبه يومي، وبالتالي كان يجب أن يكون امتصاص السيولة الفائضة على المدى القصير (60 يوماً) للتخفيف من كلفتها».
ورأى شطح «أن من أهم واجبات مصرف لبنان أن يمتصّ أي سيولة فائضة بالليرة في القطاع، ولديه طرق أساسيّة، منها ما تكون عبر الاحتياطي الالزامي، التدخّل في السوق الثانوية، إصدار شهادات ايداع لفترات قصيرة، وما جرى في الأشهر الأخيرة هو أن الأموال اتّجهت إلى لبنان للاستفادة من أسعار الفائدة على الودائع في لبنان، وهي مرتفعة نسبياً.
ولفت شطح إلى أن مصرف لبنان نجح في امتصاص السيولة بواسطة شهادات الإيداع، «إذ كانت المصارف تحتاج إلى توظيف هذه الأموال لتضمن كلفتها التي لا تقل عن 7 في المائة زائداً نقطتين مئويتين على الأقل، وبالتالي استوعب مصرف لبنان الأموال الفائضة عبر هذه الشهادات، ولم يكن بإمكان سندات الخزينة استيعابها بسبب وجود فائض في الاكتتابات، إذ كان لديها ما يكفي ولا تريد الاستدانة أكثر...».

ويبدو أن هذا السياق كانت له نتائج سلبية على مصرف لبنان الذي امتص بما يفوق طاقته بكلفة مرتفعة طويلة الأمد.
 ويشير شطح إلى «أن الأمر استوجب أن تُدار المسألة بطريقة تمكّننا من إيجاد توازن في أسعار الفائدة على الودائع وخفضها تدريجاً، لا سيما أن آلية امتصاص السيولة عبر شهادات إيداع طويلة الأمد كانت مرتبطة بمردود مرتفع لموجودات المصارف، وبالتالي يقتضي الأمر وضع أسعار الفوائد على الودائع على منحى انخفاضي، لأن العامل الأبرز في أسعار الفائدة بالليرة هو سندات الخزينة».

زيادة الدين العام


هذا الأمر انعكس زيادة غير مبررة في الدين العام وخدمته وتضخماً لافتاً في موجودات مصرف لبنان، إذ تشير احصاءات جمعية المصارف إلى أن مجمل الدين العام (المصرّح عنه رسمياً) بلغ في نهاية ابريل الماضي (وهو آخر شهر تتوافر فيه الاحصاءات) نحو 72014 مليار ليرة (47.8 مليار دولار) بزيادة 1126 مليار ليرة في أربعة أشهر فقط، فيما بلغ الدين العام الصافي (بعد تنزيل ودائع القطاع العام لدى الجهاز المصرفي المقدّرة بنحو 7765 مليار ليرة) نحو 64349 مليار ليرة، بزيادة 1787 مليار ليرة في الفترة نفسها.
وتشير احصاءات مصرف لبنان عن ميزانيته في نهاية ابريل أيضاً إلى ارتفاع موجودات محفظته من الأوراق المالية إلى 15696 مليار ليرة، بزيادة 1763 مليار ليرة في أربعة أشهر، إذ عمد منذ سبتمبر 2008 إلى إصدار شهادات إيداع وبيعها للمصارف لامتصاص السيولة منها، ثم عمد إلى شراء سندات خزينة من وزارة المال لتوزيع الكلفة بين حسابات المصارف وحسابات الحكومة، وهي عملية دفترية شكلية باعتبار أن الحسابين هما في الواقع حساب واحد.
هذه الإجراءات أضرّت بالتزامات مصرف لبنان في إطار برنامج «ايبكا ـــــ2» المبرم مع صندوق النقد الدولي، لا سيما الالتزام المتعلّق بالعمل على خفض قيمة محفظة الأوراق المالية لدى المصرف المركزي والحدّ من تنامي حصّته في تمويل الدين العام...
 فقد كشفت النشرة الشهرية الأخيرة الصادرة من جمعية المصارف، أن حصّة المصرف من تمويل الدين العام المحرر بالليرة ارتفعت من 22.5% في نهاية العام الماضي إلى 25.3% في نهاية ابريل، علماً بأنها كانت قد انخفضت في الفترة المماثلة من العام الماضي من 28.9% في نهاية العام 2007 إلى 27.1% في ابريل 2008.     

Image


 ويقدّر حجم الدين العام المحرر بالليرة بنحو 39799 مليار ليرة، يحمل مصرف لبنان نحو 10068 مليار ليرة بالمقارنة مع نحو 8781 مليار ليرة في نهاية العام الماضي ونحو 9005 مليارات ليرة في ابريل 2008.
المفارقة الغريبة أن حصة المصارف من تمويل هذا الدين انخفضت في الفترة نفسها من 62.3% في نهاية عام 2008 الى 59.1% في نهاية ابريل الماضي، ما يعني أن المصارف التجارية فضّلت شراء شهادات الإيداع التي يصدرها مصرف لبنان على الاكتتاب بسندات الخزينة الصادرة من وزارة المال بسبب فارق العائد، وهو ما جعل مصرف لبنان يؤدي مجدداً الدور الرئيسي في تغطية الاكتتابات في سندات الخزينة.
وبلغت القيمة الاسمية للمحفظة الإجمالية لسندات الخزينة بالليرة (فئات 3 أشهر، 6 أشهر، 24 شهراً، 36 شهراً و60 شهراً) نحو 38545 مليار ليرة بالمقارنة مع 37644 ملياراً في نهاية عام 2008، بارتفاع 901 مليار ليرة في الأشهر الأربعة الأولى.
 وكان مصرف لبنان قد تحرّك لمعالجة هذا الواقع بعد تعيين نواب حاكمه في مارس الماضي، فأصدر تعاميم تهدف إلى تحفيز التسليفات المصرفية بالليرة اللبنانية للأسر والمؤسسات بفائدة أدنى من المعمول بها في السوق، في مقابل استفادة المصارف من تحرير جزء من الاحتياطي الإلزامي المودع لديه، رغم المخاطر المترتبة على هذه الإجراءات.
وقال حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، في الاجتماع الشهري بين الحاكمية ولجنة الرقابة على المصارف ومجلس إدارة جمعية المصارف: «المهم هو أن تكون حركة التسليف بالعملة الوطنية جيدة خلال عام 2009، ولذلك أصدر المصرف المركزي تعاميمه لتحفيز التسليف للقطاع الخاص، مع إعفاء من الاحتياط الإلزامي ورفع سقف الاستفادة لغاية 60 مليار ليرة عند التسليف إلى مجموعة اقتصادية واحدة ذات مشاريع مختلفة»، موضحاً أن الإعفاء من الاحتياط الإلزامي لا سقف له...
وأشار إلى «أن التحويلات التي دخلت إلى لبنان كانت فرصة جيدة لتدعيم الاقتصاد والنمو والتنمية»، متمنياً إسهام المصارف إسهاماً أكبر في تسليف القطاع الخاص، ومذكراً بأخذ الحذر بشأن التوظيفات في الخارج والعمل على درس الملفات بدقة قبل الالتزام.
 وأعلن سلامة أن المصرف اتخذ قراراً، بالتنسيق مع الحكومة، يقضي بوقف إصدار شهادات الإيداع لمدة خمس سنوات بالليرة اللبنانية، إذ إن ضغط السيولة الذي شهده لبنان منذ فترة قد عولج ونُظ.ّم، والمصرف المركزي فتح قنوات جديدة عبر هذه التعاميم بغية استيعاب هذه السيولة وتشغيلها على نحو إنتاجي.

تحرّكات لخفض الفائدة

وبدأت المصارف تحرّكاً مكّثفاً لاقناع السلطتين النقدية والمالية بضرورة خفض الفائدة على الودائع بالليرة وتضييق الهامش مع الفائدة على الدولار، وذلك بهدف الحدّ من عمليات التحويل نحو الليرة للودائع الموجودة والمتدفقة...
 إلا أن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لا يزال يتحفّظ على هذا الاتجاه نظراً لانعكاساته على حجم موجوداته بالعملات الأجنبية، الذي ارتفع إلى أكثر من 23.5 مليار دولار، وبات يمثّل عنوان «الثقة» بالأوضاع النقدية وثبات سعر صرف العملة المحلية. التمسّك بهذا العنوان لـ«الثقة» بات مكلفاً جداً، إذ اضطر مصرف لبنان طوال الأشهر الماضية إلى التدخّل لامتصاص السيولة الفائضة لدى المصارف، فألغى عملياً «الاحتياطي الالزامي» في تعاميمه الأخيرة لتحفيز التسليف بالليرة للأسر والمؤسسات،   
وأصدر شهادات ايداع بكثافة على مدى طويل نسبياً بفوائد مرتفعة تصل إلى 9.25% على خمس سنوات. والمعروف أن كلفة هذه الأداة النقدية الطويلة المدى لا تنحصر بالفائدة المرتفعة، بل أيضاً بترتّب الفائدة على سنوات عدّة مقبلة لمعالجة مشكلة قائمة الآن،
 وبمنافستها لسندات الخزينة التي تصدرها الحكومة لتمويل عجزها، إذ استنكفت المصارف عن الاكتتاب بهذه السندات بحثاً عن العائد الأعلى المتوافر في الشهادات، وهو ما اضطر مصرف لبنان، مرّة أخرى، إلى تغطية العجوزات في الاكتتابات المتلاحقة في سندات الخزينة لترتفع حصّته إلى ما يوازي ربع الدين العام المحرر بالليرة.
انطلاقاً من هذا الواقع (وتضارب المصالح والأهداف فيه) اضطرت وزارة المال إلى القبول بإصدار سندات خزينة بالليرة لمدة 5 سنوات بفائدة قريبة من الفائدة المدفوعة على شهادات الايداع، إذ تتوقّع المصادر أن تبلغ هذه الفائدة نحو 9% على الأقل.

وقف إصدار شهادات الإيداع


أعلن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة اخيرا أن المصرف المركزي قرر، بالتنسيق مع الحكومة، التوقّف عن إصدار شهادات الإيداع لمدة خمس سنوات بالليرة اللبنانية، وذلك بعد معالجة ضغط فائض السيولة بالعملة الوطنية وتنظيمه، فضلاً عن أن المصرف المركزي فتح قنوات جديدة لاستيعاب هذه السيولة وتشغيلها عبر تعاميمه الأخيرة.

هامش الربح


رأى الأمين العام لجمعية المصارف مكرم صادر أن المصارف ليست قلقة من خفض التدفقات النقدية إلى لبنان إذا انخفضت أسعار الفائدة على الودائع، «فالمهم أن يبقى لنا هامش من الربح، وهذا يوجب خفض الفائدة على الودائع بالتوازي مع خفضها على سندات الخزينة».
 أما في الفترة السابقة، فقد كان مصرف لبنان يستوعب هذه السيولة بهذه الكلفة التي تعدّ مرتفعة، والسبب أن «60 في المائة من دين المصارف للدولة هو بهامش صفر في المائة، فاضطر مصرف لبنان إلى أن يغطي هذا الأمر»، أي ان مصرف لبنان كان يدفع أرباح المصارف عن أموالها الموظّفة في سندات الخزينة وذلك عبر شهادات الإيداع، وكل هذا الأمر تحت عنوان «الاستقرار النقدي».
 فإذا اختل التوازن في الفوائد يمكن أن يؤدي الأمر إلى انكسار سعر صرف الليرة الثابت.

المصدر: القبس


 

مواضيع ذات صلة :